رفتن به محتوای اصلی

كيف يكتب الشعراء الأهوال؟

بيروت بعد المأساة
AvaToday caption
الرسامون يرسمون المقتلة. إنهم قافلة بديعة الجمال كحسن جوني وأيمن وأسامة بعلبكي وزينة عاصي وتوم يونغ وإميل منعم؛ راسم لوحة غلاف كتاب العويط الأول عن المذبحة. اللون أيضاً يشهد على الفجيعة
posted onAugust 7, 2021
noدیدگاه

يسكن الشعراء الجنائز ويتمدّدون في مساحاتها. وفي حالات قصوى، كفاجعة مرفأ بيروت، تولد القصيدة مغطّسة بالدم، عالقة في المشهدية البغيضة. يضع الشاعر عقل العويط كتاباً ثانياً من رحم المشهد الجنائزي البيروتي، بعنوان «آب أقسى الشهور يشعل الليلكَ في الأرض الخراب» («دار نلسن»)، محوراً البيت الأول من قصيدة تي. إس. إليوت الشهيرة «الأرض الخراب»:

نيسان أقسى الشهور

يستولد الليلك من الأرض الموات

يصدر الكتاب اليوم، الأربعاء، في الذكرى السنوية الأولى للمجزرة الكبيرة. قصيدة طويلة، تلتحق بكتابه الجريح، «الرابع من آب 2020»، الصادر عن «دار شرق الكتاب» بعد أربعة أشهر من الجحيم. كيف يكتب الشعراء الأهوال؟ كيف يرسم الرسامون الرائحة؟ كيف يقود الموسيقيون أوركسترا الموت؟ عام على انفجار المرفأ، ومنذ ذلك اليوم، ثلاثاء الرابع من أغسطس، والفن القتيل، الصادق، النازف، المترفّع عن غايات وأجندات وصغائر، هو العزاء بعدما تحوّلت الأرض يباساً لا يزهّر سوى الوجع.

والشاعر عبدو وازن يسكب في القصيدة مواجع المدينة وإنسانها. هو وعقل العويط في فقاقيع النار، لا يهدّئان الشعر ولا يروّضان اللهب. يستلهم وازن من وسم (هاشتاغ) الذي ملأ مواقع التواصل، والذي يصف انفجار بيروت بجنون قنبلة هيروشيما. تلتقي الكارثتان بدمج المغرّدين الاسم والوَقع والغضب، فتخرج من الصميم الكسيح، مفردة «بيروتشيما». يستفزّ المعنى الشاعر، فتولد من عمقه قصيدته الطويلة: «بيروتشيما»: محاكاة لتساقط الجدران والسطوح والقراميد؛ ولنبتة الفطر الضخمة المرتسمة في الفضاء، «ماحية وجه السماء، ماحية خط الأفق عند الغروب».

«أي فاجعة لم تحلّ بعد بنا؟»، تساءل يومها الشاعر فوزي يمين. تتزلزل الأرض بإنسانها بعد الظن أنه آمن، وقد أنجز التخطيط للأيام المقبلة، مُخرجاً من حساباته الصفعة المفاجئة والضربة القاضية. ذلك الثلاثاء، تأكّد الإحساس بالزلزلة. لم تكن النجاة مطروحة على طاولة أحد. يتوقف العقل عن إعطاء إشارات المرور نحو الواقع والمنطق. تعمّه فوضى رهيبة، تشبه خبْط الانفجار في المنازل والمكاتب والأرواح والأفكار والقلوب المسحوقة. إنها «الاستباحة» التي تحدث عنها الروائي إلياس خوري. لم تكن تلك الكتلة المتصاعدة في سماء ذلك اليوم الصيفي الحار سوداء بالكامل كدخان هيروشيما، بل تعدّدت ألوانها كتدرّجات جهنم. يتوقف عبدو وازن عند انفلاشها، وهو انفلاش مروّع، كأنه ابتلاع للأرض ومَن فيها وما عليها وفي أعماقها وأحشائها وصمتها وصرختها. ابتلاع الحياة. هل حقاً نحن أحياء؟

يتوسّل عقل العويط بيروت: «يجب ألا تموتي. يجب أن تعبري جحيماً تلو جحيم». يصف المشهد وهو غريق فيه. يمكن الشعر أن يشكّل لحظة استعادة للحياة والميناء والبحر. العويط يفعل بالقصيدة ما تعجز عنه العدالة اللبنانية المشكوك بأمرها: يغطّي الجثث العارية، يحتضنها، ويدندن فوق هالتها لحن الوفاء. قد تعود الأرواح على هيئة غيوم ونسائم، فتتفقّد بيوتها وأجسامها المندثرة. هذه «العودة» لا تتم إلا بالشعر. هو الباب والمفتاح والطريق والعبور والوصول؛ وإن كان الواقع أقفالاً وأغلالاً وأكاذيب ودموع تماسيح. يسأل نوايا الشعراء الطيّبين في الكون الموحش: «هل الموت هو واحد حقاً؟ والقبر (المقبرة) هل هو واحد حقاً؟». لا! الموت ليس واحداً والقبر ليس واحداً، ولا نوارس البحر فوق الجثث واحدة، فهي غيرها المحلّقة فوق الموج المطمئنّ والرمل المذهّب والانشراح الجميل حيث نداء الأفق.

والرسامون يرسمون المقتلة. إنهم قافلة بديعة الجمال كحسن جوني وأيمن وأسامة بعلبكي وزينة عاصي وتوم يونغ وإميل منعم؛ راسم لوحة غلاف كتاب العويط الأول عن المذبحة. اللون أيضاً يشهد على الفجيعة، كالظل والشكل الهندسي والتمايل والانعكاس واللوحة المكتملة المولودة من لحم المدينة ودمها. «ماذا نساوي من دون بيروت؟»، تساءل حينها الروائي الراحل أخير جبور الدويهي. «بلد بلا مرفأ»، وصف حازم صاغية المصيبة. الدلالة كبيرة والغضب كبير، والقلب «لا يتحمّل شرايينه المتدفّقة على الرصيف»، ينزف عقل العويط.

تدافعت الأمواج إلى الوراء، وبدت الأرض كأنها انشقت، «كأنّ زلزالاً أطبق على وجهها». يستذكر عبدو وازن في «بيروتشيما» الطفلة الضحية ألكسندرا. «ماتت تحت لوح زجاج». ويكمل عدّ الأوجاع: «الفتاة بيسان سقطت تحت سقف التنك في الكرنتينا». ولو سلّم على كل ميت، لطالت القصيدة «حتى الينابيع»، بوصف أنسي الحاج. ولو وزّع الورد على الأضرحة لعرَّى الحقل. لكن ما الحيلة حين تنبثق ألسنة الجحيم ويهبّ النسيم فوق الأشلاء؟ وماذا يقال لمن فُقدوا تحت أكوام الحجارة؟ وللباكين على هذا الفقد؟ يستذكر وازن فيروز وهي تغني «لبيروت منديل العيون»: «سمعنا الأغنية في مطلع الحرب الأهلية وبكينا. نسمعها اليوم ولا نبكي. لم يجف الدمع في عيوننا، لكن مآقينا تحجّرت». وتحجّرت الروح.

لن ينقشع الضوء ليرى الشاعر مَن هو القاتل. يستعين بـ«حكاية الزورق الذي يعود من تلقائه إلى الميناء». وبعد تضرّج الضوء بالدماء، يستعين بـ«خبرة الميناء الذي يعرف الرسوّ من دون الارتطام بالرصيف»، يكتب عقل العويط «بهلع الارتجاف». كتابه الثاني عن الفاجعة استكمالٌ للجرح الذي يطير ليحطّ على كرسي مخلوع. «يا لهذه الساعة (...) كيف وبأي صوت أغطّي هذه الفاجعة؟» الشعراء قتلاهم لا يموتون.