انتهت حقبة سفير إيران في بغداد، الأكثر جدلاً بين أسلافه، إيرج مسجدي، حيث يغادر الرجل الستيني العاصمة العراقية، مُلقيًا على كاهل خلَفِه حسين آل صادق المازندراني أطنانًا من الملفات التي تنتظر الإصلاح.
قضى مسجدي 5 سنوات كاملة في منصبه، منذ 2017، العام الذي شهد إعلان العراق النصر على تنظيم داعش، وعودة الأمل النسبي إلى العراقيين، بطوي صفحة دامت عقودًا من الحروب والتوترات بين بغداد ومحيطها والعالم.
مثّل ذلك العام، نقطة شروع جديدة بالفعل في علاقات العراق الدبلوماسية، فالطريقة التي أدار بها رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي ملف العلاقات الخارجية، آتت أُكُلَها، إلى جانب عوامل دولية وإقليمية ساهمت بتغيير وجهات النظر في عواصم الجوار إزاء التجربة العراقية الجديدة.
في ذلك العام، كان الوزراء الخليجيون والعرب والغربيون قد بدأوا التدفق تدريجيًا إلى العراق، لاكتشاف الأرض التي قاطعوها عقودًا، ولأن "الطير الذي يصحو مبكرًا يحصل على كل الدود" فقد طرأت تطورات متسارعة في علاقات بغداد بالدوحة والرياض وأنقرة وأبو ظبي وعمّان، صبّت في صالح الجانبين، وأثمرت بوادر عمل اقتصادي وسياسي مشترك، أنتج لاحقاً -على سبيل المثال- القمم الثلاثية بين العراق والأردن ومصر، وإنشاء المجلس التنسيقي السعودي العراقي رفيع المستوى، أما طهران، فقد بقي سفيرها الجنرال، مسجدي، جالسًا في سفارته، مع النجوم والنسور والسيوف التي تعتلي كتفيه، وهو يطلق تصريحات تلو أخرى عن المقاومة العالمية، ومناهضة الإمبريالية، وما على العراقيين فعله وما عليهم تركه.
بعد عامٍ من تولي مسجدي منصبه، شاهد مرشد الثورة علي خامنئي، نيران العراقيين الغاضبين من سياسات إيران وحلفائها، تشتعل في قنصلية بلاده في البصرة، وبعد عامٍ آخر، أحرق المحتجون قنصليتي إيران في كربلاء والنجف، احتجاجًا على استمرار القمع الدموي لتظاهرات تشرين 2019.
لكن مسجدي، القادم من أجواء العسكر، ظل يراقب سمعة بلاده تغرق في العراق، ويوجّه باستمرار القتال، وصولاً إلى لحظة الحقيقة في انتخابات العام 2021، حين تعرض حلفاء إيران إلى أعنف ضربة انتخابية.
لم يكن السفير إيرج مسجدي، الدبلوماسي الوحيد الذي تسبب بإخفاقات دبلوماسية لبلاده، أو أثار القلاقل بتصريحات غير منضبطة، فقد سبقه إلى ذلك السفير السعودي ثامر السبهان، الذي واجه حملة من حلفاء إيران، قادت إلى طلب العراق من السعودية استبدال السبهان.
لكن الدبلوماسية السعودية كانت أكثر رشاقة في القفز حول الإشكال، وقد سارعت الرياض عام 2016، إلى استبدال سفيرها السبهان، بآخر أكثر وداعة وبشاشة، وهو السفير عبد العزيز الشمري، المنحدر من قبيلة شمّر المتداخلة عبر العراق والسعودية.
اختارت الرياض كما طهران، ضابطًا متقاعدًا لتمثيلها في العراق، لكن السفير الشمري، مارس مهامًا بخطة يُمكن لمسها، تستهدف تحسين العلاقة بين البلدين، وقد شوهد الشمري عدة مرات، وهو يتجول في شوارع العاصمة، متحديًا مخاطر أمنية لم تكن قد انتهت بعد.
أما صانع القرار الإيراني، فقد استغرق 5 سنوات وخسر 3 قنصليات وثُلث مقاعد حلفائه في البرلمان العراقي، قبل أن يصل إلى أنّ كسب العراق لم يعد ممكنًا عبر الغطرسة، وأنّ ثمّة ضرورة لتكرار الخطوة السعودية، في اختيار سفير إيراني يُحسن أداء مهمّة السفراء الأولى، وهي تحسين العلاقات بين الشعبين.
وتقول مصادر إيرانية، إنّ "تأخيرًا بيروقراطيًا عرقل" قرار تغيير مسجدي، لكنها أشارت أيضًا إلى أنّ السفير السابق "حظي بدعم شديد إثر ضغوط كبيرة تعرض لها نتيجة خلافات تورط فيها المبعوث الإيراني.
ينتمي حسين آل صادق المازندراني أيضًا إلى أجواء الحرس الثوري الإيراني، لكنه –وعلى طريقة السفير السعودي- قريب من العراق، يُتقن اللغة العربية، واللهجة العراقية، وهو ليس غريبًا عن عراق ما بعد العام 2003، فقد قضى نحو عقد في مبنى السفارة يمارس مهام مختلفة، وقد عاشت عائلته في العراق في عقود سالفة، وحمل أشقاؤه الجنسية العراقية قبل أن يسحبها منهم النظام السابق أواخر سبعينات القرن الماضي، فيما عرُف بحملة "تسفير ذوي الأصول الأجنبية". وليس معلومًا ما إذا كان السفير المازندراني قد حمل الجنسية العراقية في فترة من حياته، لكن شقيقه الأديب البارز الذي عاش في النجف، محمد رضا آل صادق، كان عراقيًا لسنوات طويلة.
المعلومات الشحيحة تشير أيضًا إلى أنّ شقيق السفير، تتلمذ على يد المرجع محمد محمد صادق الصدر، والد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي يخوض في هذه الأثناء مواجهة سياسية غير مسبوقة مع حلفاء إيران في العراق.
ولذا، بدا كما لو أن مزايا السفير المازندراني قد صُمِّمت خصيصًا لانتشال وضع إيران الدبلوماسي الغارق في العراق.
غير أن إصلاح الانهيارات الكثيرة في العلاقات بين البلدين، قد لا تكون مهمّة يرقى سفيرٌ إلى حجمها، إذ سيكون على المازندراني أن يخوض حراكًا كبيرًا في بلاده قبل بغداد، لإقناع جنرالات الحرس الثوري، ومكتب مرشد الثورة علي خامنئي، بأن يُفسحوا له المجال بإصلاح ما يُمكن إصلاحه. أما بعد وصوله إلى بغداد، فسيكون السفير أمام مهمّة صعبة، وهي أقناع زعماء عشرات الجماعات المسلحة بأن سلوكياتهم تنعكس بشكل مباشر على انطباع العراقيين عن إيران، وأن عليهم الاستجابة لخطته في محاولة إصلاح إخفاقات مسجدي.
ورغم ملامح الرغبة بتغيير السياسات التي تظهر في قرار تعيين المازندراني، إلاّ أن مراقبين كثر، يجادلون في هامشية منصب السفير، وحتى دور وزارة الخارجية في صياغة علاقات إيران، ويستند أولئك إلى أن ملف العلاقات الخارجية في إيران يُدار بشكل مباشر من الحرس الثوري والمرشد، خاصةً بعد تولي حكومة الصقور برئاسة ابراهيم رئيسي، الذي استوزر عبد الأمير اللهيان لمنصب وزير الخارجية، وهو الوزير الذي لم يجد مانعًا في خرق البروتكول، ومغادرة مكانه في الصف الثاني، إلى الصف الأول خلال قمة بغداد في آب/أغسطس من العام 2021.
وعلى الرغم من ذلك، تقول وسائل إعلام إيرانية نقلاً عن مسؤولين في بغداد، إنّ تعيين السفير الجديد يشير إلى "تغيير النهج في العراق".