تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الموسيقى الإيرانية "إيقاع" لانتفاضة الروح

الموسيقى الإيرانية
AvaToday caption
نجد الموسيقى الإيرانية وقد طبعت نفسها منذ بداياتها بنوع من الإيقاع المختلف كأنه عزف على أوتار الروح ومواجعها في لحظات التشظي والانفلات
posted onJuly 23, 2023
noتعليق

تعتبر الموسيقى الإيرانية إلى جانب الهندية من أهم الأنماط الموسيقية عراقة وقدرة على التجديد والتجدد لأن ألبوماتها الغنائية لم تتوقف منذ نهاية ستينيات القرن الـ20، على رغم شدة الرقابة التي طاولت حياة ويوميات الفن في إيران، بل إن هذه الموسيقى في شكلها القديم والحديث لا يمكن النظر إليها بمعزل عن قراءة التاريخ الإيراني لأنها ثمرة هذا التاريخ الذي تعاقبت عليه حضارات كثيرة وانصهرت في ما بينها وأفرزت خليطاً موسيقياً ساحراً يستحيل العثور عليه عند الأتراك أو البلاد العربية ككل.

كثير من الدارسين يعتبرون أن الموسيقى الإيرانية تأثرت إلى حد كبير بنظيرتها الهندية، إذ تبرز حدة هذا التأثير من خلال الموسيقى الإيرانية القديمة ذات الميسم التقليدي على مستوى الآلات الموسيقية وطرق استخدامها. وبما أن الحضارة الفارسية تعتبر أقدم الحضارات في العالم، فإنها كانت بمثابة المنبع الذي لا ينضب عبر عدد من الأنماط الغنائية الذائعة الصيت في إيران على رغم أن بعض الباحثين يميزون بين شكلين من الأغنية.

الأولى قبل ثورة 1979، والثانية في المرحلة التي لحقتها، وهناك اختلافات جوهرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمنطلقات الفكرية التي تتحكم في صياغة وإبداع الأغنية. ففي الأولى جاءت الأغنية باعتبارها تعبيراً عن حالات عيش الإيرانيون في علاقتهم بحياتهم اليومية وما يرتبط بها من مشاعر وحب ومعاناة وألم. أما الثانية، فكانت أغانيها ذات دلالات سياسية على علاقة بالثورة الإيرانية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الـ20، وتعتبر هذه الفترة الأكثر شهرة في تاريخ الأغنية الإيرانية لأنها مرحلة عرفت ببدايات سلطة الرقابة المتشددة وقدرتها على تكريس الرأسمال الديني في سائر البلاد وتقزيم حريات التعبير الغنائي تجاه الدولة والمجتمع في آن واحد.

يقول الموسيقي الإيراني علي بياني إن "الموسيقى ليست فناً فحسب، وإنما هي فكر وثقافة. ولطالما تأثرت الموسيقى الإيرانية بالعوامل السياسية والاجتماعية على مر العقود، فتطورت أحياناً وتراجعت في أحيان أخرى على رغم أنها احتفظت بمكانتها التراثية".

إن حضارة الهند كبيرة وضاربة في القدم، إذ يستحيل وجود نمط موسيقي لم يتأثر بها، بخاصة حين يتعلق الأمر ببعض نماذج الموسيقى التقليدية القريبة في محيطها الثقافي وميسمها الفني من الحضارة الهندية. هذه العراقة والأصالة على مستوى البناء الإيقاعي جعلت الموسيقى الإيرانية مثار غموض كبير بالنسبة إلى البلاد العربية التي ترنو بشكل أقوى إلى الطرب الترفيهي والتكرار الموسيقي القائم على محاكاة النص.

وتعتبر هذه الخصائص الفنية التقليدية من أبرز العوامل التي تسهم يوماً بعد يوم في أزمة الأغنية العربية وجعلها تكرر نفسها من حين إلى آخر، ففي وقت كان ينبغي تجديد الأغنية والثورة على قوالبها الجمالية وأنظمتها الفنية، جاءت العولمة فحولت موسيقاها إلى ما يشبه التبعية الحرفية للغرب. وتكاد أغانٍ عربية عدة تخلو من الإبداع الحي القادر على خلق مناخات فنية عربية للأغنية ومتخيلها في حين نرى نظيرتها الإيرانية وقد ازدادت أصالة وانغماساً في تراثها الموسيقي الشامخ.

إن المرحلة التي عرفت سيطرة الرقابة والمنع أسهمت إلى حد كبير في خلق نوع من المنفى الداخلي لدى عدد من الفنانين، بل قادتهم إلى ابتداع أشكال موسيقية نابعة من تراثهم الفني، مع العلم أن التجارب التي كانت تعيش خارج إيران استطاعت العزف بشكل مختلف ووضعت الموسيقى الإيرانية في عمق تحولات الأغنية المعاصرة في العالم. وهكذا بدت الموسيقى الإيرانية حاضرة في مختلف الأفلام التي تصور في البلد أو قريباً منه، بحيث يتم استغلال بعض النماذج في الموسيقى التصويرية لإضفاء الخصوصية الجمالية المحلية على الفيلم.

يرى الكاتب غسان خروب أنه "في كثير من المقطوعات الموسيقية نجد أن الموسيقى الإيرانية بدت أكثر وضوحاً وتأثيراً في الموسيقى الهندية التي تعتمد اليوم على أسلوب يطلق عليه ’الهندوستاني‘ وهو الشائع في شمال الهند، وتعود جذوره للموسيقى الإيرانية. وهذا التأثير عزاه الباحثون إلى وجود موسيقيين إيرانيين في بلاط الملك الهندي أكبر شاه، ومن أشهرهم الشاعر والموسيقي والمغني الشهير أمير خسرو دهلوي الذي خلّف بعد وفاته كثيراً من المؤلفات الشعرية والأدبية والتاريخية المكتوبة بالأوردية والفارسية والهندية والعربية".

في حين نجد الموسيقى الإيرانية وقد طبعت نفسها منذ بداياتها بنوع من الإيقاع المختلف كأنه عزف على أوتار الروح ومواجعها في لحظات التشظي والانفلات، فإنها ظلت بمنأى عن التأثير في خصوصية الموسيقى العربية بحيث لا يجري فهم قواعدها ولا جمالياتها في البحث عن نغم روحي خاص.

 

إن الوعي بالموسيقى الإيرانية وتراثها الثقافي يبدو غائباً في الثقافة العربية، ففي وقت تحضر نماذج موسيقية من العالم يغيب هذا الشكل الموسيقي، ولا نجد مهرجانات عربية تقوي الصلة مع الساحة الفنية الإيرانية في إطار نوع من التلاقح الفني أو المثاقفة التلقائية التي قد تسهم في خلق تواشجات جمالية بين الحضارتين.

يعتقد العرب بأن حداثة الأغنية تبدأ من المركز (الغرب) في حين أن بعض التجارب اليابانية والصينية في مجال الفنون تؤكد أن كل شيء موجود في عمق هذه الحضارات التي احتمت من العولمة وحصنت تراثها الفني وجعلته بمثابة مختبر فكري لها، وما نبحث عنه بعيداً هو قريب منا، لكن كيف يمكن التسلل والعيش في مباهج هذه الحضارة الفارسية ونحن لا نزال تاريخياً مرتبطين بالصناعة الفنية الغربية؟

يقول الكاتب عبدالرحمن جمعة "الموسيقى الإيرانية التقليدية تتداخل فيها روافد لثقافات وحضارات أخرى كثيرة، وتعتبر الموسيقى الهندية صاحبة التأثير الأكبر في الموسيقى الفارسية، فقد طلب بهرام ملك الساسانيين من ملك الهند (والد زوجته) أن يرسل معه 1200 موسيقي هندي ليمتعوا الإيرانيين بموسيقاهم. وأبرز هذه التأثيرات أن بعض الآلات الموسيقية الهندية شائعة في الموسيقى الإيرانية كآلتي القان والداراي. من الناحية الأخرى تتأثر الموسيقى الهندية كذلك بالموسيقى الإيرانية، فالتأثر بينهما كان متبادلاً، والسلطان الهندي أكبر شاه كان يضم في بلاطه موسيقيين إيرانيين من بينهم الموسيقي والشاعر أمير خسرو دهلوي".

ليست الموسيقى الإيرانية عبارة عن خطاب أيديولوجي تماهى في مرحلة من سياقه السياسي مع الواقع بقدر ما تمثل خطاباً جمالياً متعالياً يحاكي روح الإنسان ويكشف عن آلامه وتصدعاته. بهذه الطريقة تغدو الموسيقى الإيرانية بالنظر إلى التعريف الأرسطي تطهيراً للروح من كل ما قد يلم بها، بل إنها تكاد تكون عبارة عن مختبر فني مفتوح على التجريب والتنوع والحلول في مواضع متعددة ذات صلة بالموسيقى المعاصرة.

وعلى رغم البعد الجمالي الذي تتميز به هذه الموسيقى، فإنها لم تحظ بالعناية اللازمة من طرف النقد الفني العربي، ومع العلم أن الأغنية الإيرانية وموسيقاها غدتا بمثابة ضرورة فنية لمعرفة هذا النوع من الموسيقى الروحية التي تستمد ملامحها من تاريخ الجسد، فإن الوعي بهما رهين بمسألة الانفتاح التي تكاد تكون ضرورة وجودية من اعتبارها منعطفاً جمالياً. فهذا الانفتاح قد يعطي للموسيقى العربية ميسماً جديداً به تنطبع وعلى منواله تعمل على تجديد نفسها من الداخل، من دون أن تلجأ هذه المرة إلى الموسيقى الغربية الكلاسيكية والمعاصرة.

حين يفكر العربي في التأليف والغناء والعزف دائماً ما يضع نفسه أمام المرآة الغربية وكأن هذه الأخيرة الوحيدة الموجودة في عالم الفن، مع أن العودة للحضارة الفارسية القديمة بإمكانها أن تسهم في تجديد التجربة العربية وجعلها مفتوحة على هواجس الجسد والتاريخ والذاكرة.

خطفت السينما الإيرانية بريق الشهرة من الموسيقى وجعلتها تابعة لها، بل إن النماذج والأغاني التي يعرفها العالم العربي عن هذا البلد لم يتعرفوا إليها إلا من خلال أفلام أصغر فرهادي ورخشان بني اعتماد وعباس كياروستمي وغيرهم. وعلى أساس أن السينما كانت المعبر الوحيد أمام العالم للدخول إلى إيران ومعرفة ما يعيشه الناس من تصدعات في هذا البلد، أسهمت الأفلام ضمناً في تغريب التجربة الموسيقية. فالناس تسعى جاهدة إلى مشاهدة كل فيلم إيراني جديد، لكنها تنأى بنفسها عن معرفة أحوال الموسيقى والغناء.

غير أن بعض التجارب وبسبب عيشها خارج إيران لأسباب سياسية، استطاعت أن تبني جسراً بين التراث الإيراني والموسيقى الغربية من خلال حفلات وسهرات، لكنها كانت قادرة على تقديم نفسها إلى الجمهور الغربي، بل تكاد تكون هذه التجارب الموسيقية ظواهر نادرة بسبب الشهرة التي حققتها في وقت وجيز، إلى جانب تجارب موسيقية خلخلت المألوف بعد أن حرصت على التماهي مع أنماط موسيقية أخرى، كما هي الحال في تجربة محسن نامجو التي عمل فيها على مزج التراث الإيراني بموسيقى البلوز والفولك والروك. وبهذه الطريقة أسهم نامجو في نقل التراث الإيراني إلى مرحلة أضحى فيها كونياً، وهو يلتحم بموسيقى الآخر. هذه الطريقة وضعت الفنان في مختبر تجريبي موسيقي كوني لم تختفِ فيه الهوية الإيرانية بقدر ما تمتحن نفسها من خلال التراث الغربي.

أما فرقة "سيهرانج" التي يعيش أفرادها أيضاً في أوروبا، فهي ذائعة الصيت واستطاعت أن تحقق شهرة واسعة من خلال صوتها النسوي الوحيد في الفرق، والأمر يتعلق هنا بالمغنية والعازفة جولنار شاهيار التي استطاعت تحقيق تواشجات فنية مع موسيقى الجاز، لكن بالحفاظ على القالب الغنائي الإيراني.